ページ

2010年5月6日木曜日

تحكيم القوانين تأيف: الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ  

تحكيم القوانين

تأيف: الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ
مفتي الديار السعودية الأسبق

تقديم: الدكتور حسن كو ناكاتا
الأستاذ بكلية الإلهيات, جامعة دوشيشا, اليابان




المقدمة
حسن كو ناكاتا
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فقد بعث الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لأمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كي يمكنها تمييز الإسلام من الشرك من جديد حتى تعود ظاهرة على الحق وتقود البشرية قاطبة كما كانت في صدر الإسلام, حين وقعت في ظلمة التقاليد الباطلة المخالفة للسنة التي تراكمت أثر تطورات الأزمنة وتغيرات أحوالها حتى تدهورت فغُلِبت واستُعمرت بأيدي الكفرة سياسياً واقتصادياً وثقافيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام."
وما زال الشيخ وأتباعه سوط الله الذي هذّب الله تعالى به الأمة حتى كَتَبَ آخِرُ دعاتهم العظام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله, مفتي الديار السعودية الأسبق, المجتهد المجاهد الممتثل بقوله صلى الله عليه وسلم " أفضل الجهاد كلمة عدل(في رواية"كلمة حق") عند سلطان جائر "كتاب " تحكيم القوانين" الذي بين يدي القارئ وهو ,مع صغر حجمه, أهم كتاب كُتِبَ في مجال السياسة الشرعية و في مجال الدعوة السلفية في عصرنا هذا.
في حقيقة الأمر, القوانين الوضعية هي روح الحضارة الغربية وسر تغلبها على العالم ووسيلة هيمنتها على الشعوب والأقوام بالإضافة إلى كونها شركاَ حيث أنها إلزام الناس بأوامر المخلوقين ونواهيهم بكلّ قوة الدولة و إلزام الخلق بالأوامر والنواهي هو عين الألوهية التي لا بد من توحيدها لله الخالق رب العالمين وحده لا شريك له.
فإذاً لا يمكن للأمة أن تحقّق توحيد الألوهية وتكون أمة مسلمة, فضلاً عن أن تتخلّص من الاستعمار الغربي, إلا بعد أن تتجرّد من نظام القوانين الوضعية المصطنعة في الغرب الذي يسيطر على البلاد الإسلامية

وقد أوضح الشيخ محمد رحمه الله حقيقة نظام القوانين الوضعية وحكمها وضوح الشمس حتى لا يترك أي شبهة قابلة لسوء الفهم أو التأويل الخاطئ, لأن أسلوب كتاب " تحكيم القوانين" أسلوب منظّمٌ ومنهجيٌّ وحسن الترتيب حيث أنه بيّن في بداية الكتاب أن تحكيم القوانين الوضعية ما هو إلا نقيض الحكم بما أنزل الله وجزم بكفرالقائم به، ثمّ بعد ذلك قسّم في بداية الكتاب الكفر إلي قسمَْينِ، القسم الأول هو كفر اعتقادٍ والذي يُخرج صاحبه عن الملّة والقسم الثاني هو كفرُ عملٍ والذي لا يُخرج صاحبه عن الملّة.
أما كفر الاعتقاد فقسّمه إلى ستة أنواع، الأنواع الأربعة الأولى يتعلّق اعتقادها بالقلب و مقصور على حالات فردية، وقد رتّبها الشيخ رحمه الله بترتيب من الأشّد إلى الأخفّ, الأول هو الاعتقاد ببطلان حكم من أحكام الله, والثاني هو الاعتقاد بالأفضلية لحكم من غير أحكام الله على حكم من أحكام الله, والثالث هو الاعتقاد بالمماثلة لحكم من غير أحكام الله على حكم من أحكام الله والرابع هو الاعتقاد بجوازالحكم بحكم من غير أحكام الله مع اعتقاده بأفضلية حكم الله, و هذه كلّها كفرُ اعتقادٍ ناقل عن الملّة.
ثمّ ذكر الشيخ رحمه الله النوعان الآخران من كفرُ اعتقادٍ ناقل عن الملّة وليس اعتقادهما أمر باطني متعلّق بالقلب ولا مقتصر على حالات فردية بل هو أمر ظاهرعام متعلّق بنظام الحكم كظاهرة اعتقادية اجتماعية. وأولهما اتخاذ القانون المُلفّق من قوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها و بعض أحكام الشريعة وغير ذلك كمرجع لنظام الحكم بشكل تنظيمي إلزامي شامل ويقول الشيخ رحمه الله "وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقّة لله ورسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية" و" فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة." جدير الذكر هنا أن استعمال كلمة "محاكم" لا يقتضي أن موضوع القوانين الوضعية يقتصر على نظام القضاء بل هي كناية عى نظام الحكم كلّه لأنه يقال أنها " وتُلزمهم به وتُقِرُّهم عليه وتُحتِّمُه عليهم" و ليس إقرار القوانين للناس كمرجع في حال التنازع وإلزام حكمها القضائي على الناس وظيفة المحكمة أبداً.
أما ثانيهما فهو متعلّق بالمجتمع السعودي خاصّةً, وهو اتخاذ عادات القبائل المسمّاة ب"سلوم" نظاماً للحكم على مستوى المجتمع القَبَلي.
النوعان الآخران هما النوع الخامس والسادس من كفرُ الاعتقادٍ بحسب تقسيم الشيخ رحمه الله نفسه، وقد جزم بأنهما كفر ناقل عن الملّة مثل الأنواع الأربعة الأولى ولكن الشيخ رحمه الله لا يناقش فيهما اعتقادهم بخلاف ما ناقشه في الأنواع الأربعة السابقة لأنهما ظاهرة اعتقادية اجتماعية لا يُهِمُّ فيها اعتقاد الأفراد وبالتالي لا يحتاج إلى السؤال عن الاعتقاد القلبي الباطني بل يحتاج إلى البحث عن واقع تطبيق القوانين الوضعية والإلزام بها بشكل مُنظَّم هو بعينه أصدق دليل وأظهره عليهما.
وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله فهو الذي تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى وهو الكفر غير الناقل عن الملة الذي أُشيرَ إليه في قول ابن عباس رضي الله عنه " كفر دون كفر" و"ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" في تفسيره لقول الله تعالى : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. إلا أن هذا القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله خارج موضوع هذا الكتاب.
فليس تحكيم القوانين الوضعية هو أعظم كفر اعتقادي ناقل عن الملّة وأشمله وأظهره فقط, ولكنه الأكثر انتشارا والأشدّ نفوذاً في بلاد المسلمين. بل لم تبقى على الأرض بقعة لا تُُطَبَّق فيه هذه القوانين الوضعية, بما فيها البلد الذي كان الشيخ رحمه الله يتولّى منصب المفتي فيه.
قال الشيخ رحمه الله في خطابه إلى أمير الرياض ما يلي:

فبالإشارة إلى خطابكم رقم 4926 وتاريخ 11/4/1375 المرفق به الأوراق الخاصّة بموضوع تأسيس غرفة تجارية بالرياض.
نفيدكم أنه جرى درس النظام المرفق ولاحظنا أهمها الفقرة. د - من المادّة 3, التي نصّها:أن تكون الفرفة مرجعاً لحل الخلافات التجارية بين المتنازيين من التجار سواء كان المدّعى عليه مسجّلا أو غير مسجلاً. وقد انتهى إلين انسخة عنوانها "نظام المحكمة التجارية للمملكة العربية السعودية" المطبوع بمطبعة الحكومة بمكّة عام 1379 للمرّة الثانية, ودرسنا قريباً نصفها فوجدنا مافيها نٌظما وضعية قانونية لا شرعية فتحقّقنا بذلك أنه حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع أنه سيكون فيها محكمة وأن الحكام غير شرعيين بل نظاميون قانونيونى ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم
من الشرع الذي هو وحده المتعيّن للحكم به بين الناس المستضاء منه عقائدهم وعباداتهم ومعرفة حلاحهم من حرامهم وفصل النزاع عندما يحصل التنازع. واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو قلّ قليل لا شكّ أنه عدم رضا بحكم الله ورسوله ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوقى إلى أربابها وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حلّ مشاكلهم واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملّة والأمر كبير مهمّ وليس من الأمور الاجتهادية. وتحكيم الشرع وحده دون كلّ ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون كلّ ما سواه, إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو معبود وحده لا شريك له وأن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم هو المَّتبَع و المحكَّم ما جاء به فقط. ولا جُرِّدت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاّ وتحكيماّ عند النزاع... - إلى آخر خطابه.

فقد أوضح الشيخ رحمه الله أن لا يتمّ التوحيد إلا بعد التبرء من تحكيم القوانين الوضعية قائلاً :"تحكيم الشرع وحده دون كلّ ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون كلّ ما سواه" وهو مراد قول الشيخ عبد الهادي أونغ, رئيس الحزب الإسلامي الماليزي, حفظه الله : "إيمان توحيد الربوبية و الألوهية ينبغي أن يثبت بتوحيد الحاكمية,أي مرجعية الأحكام"
للأسف الشديد, لم يُسمَع كلام الشيخ في ذلك الوقت, ليس عند الحكّام فقط, بل ولا عند كثير من طلبة العلم, مما أدى إلى تدهوُّر أحوال المسلمين يوماً بعد يوم حتى عصرنا هذا، مما يجعلنا نحسّ بالحاجة إلى إعادة طبع هذا الكتاب القيّم و ترجمتة إلى سائراللغات ونشره في أنحاء العالم حتى تتبرّأ الأمّة من تحكيم القوانين الوضعية الغربية الذي هو كفر اعتقاد ناقل عن الملّة بل هو أشد الكفر وأسوأه وتعود إلى توحيد الحاكمية لله وحده حتى توحّد صفوفها تحت قيادة موحَّدة خاضعة لحكم الشرع وحده دون كلّ ما سواه, ألا وهي الخلافة الراشدة التي يجب علينا إقامتها, لتعود إلى مكانها الرائد لتحرير البشرية قاطبةً من عبودية المخلوق, والتي تتجلى في تحكيم القوانين الوضعية الغربية التي تسود العالم كلّه بما فيها بلاد المسلمين.
نسأل الله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.




بسم الله الرحمن الرحيم


إنّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين, في الحكم به بين العالمين, والردّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عزّ وجلّ : {فإنْ تنازعتُم في شيءٍ فرُدّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}.
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي ، وبالقسم ؛ قال تعالى: {فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيتَ ويُسَلِّموا تسليمًا} ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم بقوله جل شأنه: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت}. والحرج: الضيق. بل لا بدّ من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلّون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء ، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتمّ تسليم ، ولهذا أكّد ذلك بالمصدر المؤكّد وهو قوله جلّ شأنه: {تسليمًا} المبين أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم ، بل لا بدّ من التسليم المطلق.
وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}. كيف ذكر النّكِرة هي قوله: "شيء" في سياق الشرط وهو قوله جلّ شأنه: {فإنْ تنازعتم} المفيد العمومَ فيما يُتصوّر التنازع فيه جنسا وقدرًا.
ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إنْ كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
ثم قال جل شأنه: {ذلك خيرٌ} فشيء يُطلقِ اللهُ عليه أنه خير، لا يتطرّق إليه شرّ أبداً، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلا وآجلاً.
ثم قال: {وأحسن تأويلاً} أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة فيفيد أنّ الردَّ إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، عند التنازع شرٌّ محضٌ، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة.
عكس ما يقوله المنافقون: {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} وقولهم: {إنّما نحنُ مُصلِحون} لهذا رد الله عليهم قائلاً {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون}.
وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْفٍ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم محضُ استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازمٌ لهم.
وتأمّل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم}. فإنّ اسم الموصول مع صِلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العمومُ والشمولُ هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدْر فلا فرقَ هنا بين نوع ونوع، كما أنّه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى اللهُ الإيمانَ عن مَن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما في قوله تعالى: {أَلمْ تَرَ إلى الذينَ يَزْعُمونَ أنّهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليكَ وما أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدونَ أنْ يَتَحاكَموا إلى الطاغوتِ وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهم ضلالا بعيدًا}.
فإنّ قوله عز وجل: {يَزْعُمون} تكذيب لهم فيما ادّعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبدٍ أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر, والطاغوت مشتق من الطغيان وهو: مجاوزة الحدّ. فكلُّ مَن حَكَمَ بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكَمَ إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حَكَمَ بالطاغوت وحاكم إليه. وذلك أنّه مِن حقِّ كل أحدٍ أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه.
كما أنّ من حقِّ كل أحدٍ أن يُحاكِمَ إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمَن حَكَمَ بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حدّه، حُكْمًا أو تحكيما، فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده.
وتأمل قوله عز وجل: {وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به} تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا والذي تعبّدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه, {فبدَّل الذينَ ظَلموا قولاَ غيرَ الذي قيلَ لهُم}.
ثم تأمل قوله: {ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهُم} كيف دلَّ على أنّ ذلك ضلالٌ وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى كما دلّت الآية على أنّه من إرادة الشيطان عكس ما يتصور القانونيون من بُعدهم من الشيطان، وأنّ فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بُعث به سيدُ ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومُنحىً عن هذا الشأن.
وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حُكم أحسن من حُكمه: {أَفَحُكمَ الجاهليةِ يَبْغونَ ومَنْ أحسنُ مِن اللهِ حُكمًا لِقومٍ يُوقِنون}. فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلّت على أنّ قِسمة الحكم ثنائية وأنّه ليس بعد حكم الله تعالى إلاّ حُكم الجاهلية شاءوا أمْ أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أنّ أهل الجاهلية لا تناقُضَ لديهم حول هذا الصدد.
وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أنْ يتّخذوا بين ذلك سبيلاً وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولئكَ هُمُ الكافرونَ حَقَّا وأَعْتدنا للكافرينَ عذابًا مُهينًا} وأما القانونيون فمتناقضون ثم انظر كيف ردّت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حُسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عزّ وجلّ: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقوْمٍ يُوقِنون}.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ينكر اللهُ على من خرج من حكم الله المُحْكم المشتمل على كل خير, الناهي عن كل شرّ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتارُ من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكهم"جنكيز خان" الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكامٍ قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها.
وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بَنيهِ شرعا مُتّبعا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون}. أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ}. أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لِمَن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء. [انتهى قول الحافظ ابن كثير]
وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {فاحْكُمْ بَيْنهُم بما أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا جاءَك مِن الحقّ} وقال تعالى: {وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك}.
وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك: {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}. والقسط هو: العدل ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون} ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} و{ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} و{ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هم الفاسِقون}. فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوق ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا ، بل هوكافرٌ مطلقًا، إمّا كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ: إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقل عن الملّة، وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة.

أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد

فهو أنواع:
أحدها: أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة حُكمِ الله ورسوله وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزل اللهُ من الحُكم الشرعي وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم فإنّ الأصول المتقررة المتّفق عليها بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مُجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعيًّا، فإنّه كافر الكفرَ الناقل عن الملّة.
الثاني: أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا. لكن اعتقد أنّ حُكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حُكمه، وأتمّ وأشمل لما يحتاجه الناسُ من الحُكم بينهم عند التنازع إما مطلقا أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث التي نشأت عن تطوّر الزمان وتغير الأحوال وهذا أيضًا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيله أحكامَ المخلوقين التي هي محضُ زبالةِ الأذهان وصرْفُ حُثالة الأفكار على حُكم الحكيم الحميد.
وحُكمُ اللهِ ورسولِه لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدّد الحوادث، فإنّه ما من قضية كائنة ما كانت إلاّ وحُكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك ، عَلِمَ ذلك مَن علمه وجَهِلَه مَن جهله.
وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنّه مَن قلَّ نصيبُه أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنّوا أنّ معنى ذلك بحسب ما يُلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوّراتهم الخاطئة الوبية. ولهذا تجدُهم يحامون عليها ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه.
وحينئذٍ معنى تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصحبة فيه الأصول الشرعية والعلل المرعية والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أنّ أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل وأنهم لا يقولون إلاّ على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدقُ شاهدٍ النوع.
الثالث: أنْ لا يعتقد كونَه أحسن من حُكم الله ورسوله لكن اعتقد أنه مثله فهذا كالنوعين اللذين قبله في كونه كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} ونحوها من الآيات الكريمة الدالّة على تفرُّدِ الربّ بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال والحُكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أنْ لا يعتقد كون حُكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله فضلاً عن أنْ يعتقدَ كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحُكم بما يخالف حُكم الله ورسوله. فهذا كالذي قبله يصدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جوازَ ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقّة لله ورسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات. فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون المُلفّق من شرائعَ شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة مفتوحةُ الأبواب والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به وتُقِرُّهم عليه وتُحتِّمُه عليهم. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة.
وذِكْرُ أدلّة جميع ما قدّمنا على وجه البسْطِ معلومةٌ معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضوع.
فيا معشر العُقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النُهى! كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز عليهم الخطأ بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ من حُكم اللهِ ورسولهِ نصًّا أو استنباطًا, تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم وفي أموالكم وسائر حقوقكم ! ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله ورسوله الذي لا يتطرّق إليه الخطأ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه فكما لا يسجدُ الخلقُ إلاّ للهِ، ولا يعبدونَ إلاّ إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم الحكيم العليم الحميد الرءوف الرحيم, دون حُكم المخلوق الظلوم الجهول الذي أهلكته الشكوكُ والشهواتُ والشبهات واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العُقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه لما فيه من الاستعباد لهم والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ}.
السادس: ما يحكُم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.

وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذي لا يخرج من الملة

فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز و جل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قد شمل ذلك القسم وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية : " كفر دون كفر" ، وقوله أيضا : "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" اهـ. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
وهذا وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة فإنه معصية عُظمى أكبرُ من أكبر الكبائر كالزنا وشُرب الخمر والسّرِقة واليمين الغموس وغيرها. فإنّ معصية ً سمّاها اللهُ في كتابه "كفرًا" أعظمُ من معصية لم يُسمِّها "كُفرًا".
نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادا ورضاءً. إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه

0 件のコメント:

コメントを投稿